لعل من نافلة القول التنويه لما لمدينة القدس من أهمية دينية متميزة وقدسية خاصة لدى أتباع الرسالات السماوية الثلاث، تفوق في خصوصيتها المكانة التاريخية والجغرافية والحضارية للمدينة، مما جعلها منذ أقدم العصور تستأثر باهتمام العالم والبشرية بأسرها.
لهذه الأسباب ولغيرها كانت المدينة دوماً مكاناً للصراعات والأطماع الروحية والمادية للعديد من الأمم والشعوب التي قامت بغزوها والهجرة والزحف إليها لاحتلالها وتملكها والاستقرار بها. إلا أن اهتمام العرب بالمدينة المقدسة دون شعوب الأرض كلها كان له مكانة وطابع خاص. كيف لا وهي مدينة شرقية عربية الأساس إسلامية القواعد والبناء وهي أحدى عناوين حضارتهم ورمز تراثهم ووحدتهم، لم يفارقوها منذ أن أنشأها أجدادهم اليبوسيون (قبل مرور سيدنا إبراهيم عليه السلام بها بألف سنة على الأقل، وكذلك قبل أن يفتتحها سيدنا داود بأكثر من ألفي سنة)، لذا كان حبهم لها وتعلقهم بها يزداد شغفاً يوما بعد يوم على امتداد التاريخ العربي "مسلمين ومسيحيين". فالقدس لها قدسية خاصة في نظر جميع المسلمين وفي قلب كل مسلم، فبها موروثهم وحقهم الديني والتاريخي منذ ما يزيد عن ألف وثلاثمائة سنة وهم الوارثون الحقيقيون للأنبياء جميعا، وهي بالنسبة لهم أرض طهور مباركة بفضل القرآن الكريم، وعلى أرضها المسجد الأقصى أولى القبلتين، وهي أرض الإسراء والمعراج وأرض الرسل والأنبياء والمحشر والمنشر. وهي أيضاً مقدسة في نظر العرب المسيحيين منذ أكثر من ألفي سنة، فهي لهم مهد ديانتهم وبها قام المسيح بدعوته وصعوده وفيها أول كنيسة في العالم. أما العبرانيون فقد دخلوها لأول مرة على زمن سيدنا داود سنة 1000 ق.م، ويدعون بأنهم "الورثة الحقيقيون للميراث السياسي والروحي لداود وسليمان عليهما السلام، وبأنها مركز تعبدهم ومحور تاريخهم ومرقد أنبيائهم وفيها "مكان هيكلهم". أما بالنسبة لأبنائها المقدسيين العرب سكانها وأهلها الأصليين فهي تعني لهم الكثير الكثير، فللمدينة في قلوبهم سحر وجمال وجاذبية تشدهم إليها، وهم المتيمون والمدمنون على حبها وعشقها والارتباط بها وبأكنافها، بل حتى الموت فيها والدفن في ثراها. ينحنون بهاماتهم إجلالاً واحتراماً لمساجدها وكنائسها ومعابدها، يغمرهم الإيمان والخشوع عندما يؤدون صلواتهم وعباداتهم فيها، ويقدسون كل ذرة تراب وحجر فيها ويتشوقون للسير حول أسوارها وفي شوارعها وطرقها وحاراتها وأزقتها ليشتمُّوا فيها عبق تاريخها الغابر وعراقة تراثها المنشور، وينتشون بسماحة ومحبة محيا أهلها وسرور ناسها بلقائهم، يحِنّون إليها بكل لهفة لدى البعد واغترابهم عنها، يشدهم للعودة إليها الشوق لزيارة أماكنها الدينية والصلاة فيها وإحياء ذاكرتهم وذكريات طفولتهم وأماكن إقامتهم بها أو لمشاهدة ما سمعوه عنها من أجدادهم وآبائهم وأمهاتهم، والجلوس والتسامر مع أقربائهم وأهلهم وجيرانهم فيها. استفاق المقدسيون بعد قرابة عقدين من عام 48 م على احتلال ثانٍ جديد أتى على الجزء الباقي من مدينتهم. فبينما كانوا ينتظرون أن يأتي الفرج لهم من الشرق لتحرير غربي مدينتهم على أيدي العرب والمسلمين، فاجأهم الجيش الإسرائيلي ليأتي زاحفاً من الغرب ويستولي ويحتل الشطر الشرقي والبقية الباقية من المدينة. ومنذ ذلك اليوم للاحتلال، ومدينة القدس وأبناؤها والشعب الفلسطيني بأسره يعاني الأمرين وتتصاعد محنتهم ومعاناتهم. فهم لم يكادوا ينسون بعد جرحهم ومصدر ألمهم الذي لم يندمل بفجيعتهم بما حدث لهم عام 48 م حين هاجم اليهود منازلهم بغربي المدينة وقاموا بتهجير وطرد ما يزيد عن 30000 مقدسي تشردوا وهاموا على وجوههم بدون مأوى، حاملين بأيديهم وعلى صدورهم مفاتيح بيوتهم منتظرين العودة إليها بعد أيام. وزاد من ألمهم وفجيعتهم استكمال احتلال اليهود لشرق المدينة عام 67، و بعد أن شاهدوا منازلهم وبيوتهم وأملاكهم في غربي المدينة مصادرة يستولي عليها ويسكنها غيرهم، أو تم إزالتها عن الوجود لإقامة العمارات والمشاريع المتعددة على أنقاضها دون وجه حق أو سند قانوني. لقد أدى ضم الاحتلال لشرقي القدس إلى إطلاق يديه واستخدام القوة والغطرسة لتحطيم كل ما يقف في طريقه لتحقيق أهدافه ورغباته بتهويد المدينة، فقام بمصادرة أراضيها وغرس المستوطنات حولها وهدم بيوت وسحب هويات أهلها والعمل على تهجيرهم وطردهم وإبعادهم وتشتيتهم، وإصدار التشريعات والقوانين الجائرة ضدهم وفرض الضرائب والغرامات الباهظة للضغط عليهم لتطفيشهم، وإقفال مؤسساتهم الوطنية وجمعياتهم والتشديد على حركتهم وتنقلاتهم، والحد من حرية عبادتهم وممارسة شعائرهم الدينية، وضرب حركتهم الاقتصادية، وحصارهم بإغلاق منافذ المدينة بالجدران والأسوار والمعابر لعزل المدينة وتغريبها عن محيطها، فأبعدوا أهل المدينة عن أهلهم وأقاربهم ومنازلهم وأماكن عملهم ومدارسهم ومستشفياتهم، متجاهلين ونافين حقوق العرب الدينية والسياسية والمدنية، مما أوجد جدارا من الكراهية وكرس تقسيما وحواجز نفسية واجتماعية ولدت حقداً وكراهية لا تسمح بأي إمكانية للتعايش والتسامح والعيش المشترك بأمن وسلام. لقد كانت القدس دائما في موقع القلب عند العرب والمحرك الرئيسي لسياستهم، فالقدس بمكانتها وأهميتها هي لب القضية الفلسطينية وفلسطين جوهر الصراع الإسرائيلي – العربي. لذا تأثرت أحوالهم دوماً بأحوالها سلباً وإيجاباً، فلطالما كانت القدس عامل الاستقرار والتوحيد أو بؤرة التوتر والقلاقل للمنطقة العربية. فلا حل للقضية ولا أمن ولا استقرار ولا سلام حقيقي إلى بحل مشكلتها. لذا ومع التراجع والتخلف العربي في العقود الأخيرة وانخفاض الشعار العربي من "ما أخد بالقوة لا يسترد إلا بالقوة" إلى الاكتفاء بشعار "السلام مقابل السلام"، انحسر الاهتمام بموضوع القدس وانتقص تدريجياً من سيادتها العربية، مما أدى إلى انخفاض سقف التفاوض عليها حتى كادت تبدد الحقوق الشرعية للمدينة وأهلها. فمنذ أن رفض الفلسطينيون قرار الأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947 المتضمن مشروع تقسيم فلسطين وتدويل القدس، والمدينة تجزأ وتقسم وتتقلص وتتوسع حدودها وجغرافيتها (وصلت لربع الضفة الغربية) حسب المصالح والأهداف والمخططات الإسرائيلية، فجرى تغيير واستبدال معالمها وطابعها وتشويش وطمس هويتها وتاريخها لإعطائها طابعاً غربياً بعيداً عن طابعها العربي الإسلامي، وعبث في ديموغرافيتها بكل الوسائل لإيجاد أكثرية يهودية وتصفية الوجود العربي، كما زورت مكانتها الدينية والسياسية لإضفاء وجهة النظر الإسرائيلية باعتبار القدس احتكاراً لهم وحدهم مدينة يهودية موحدة ذات أكثرية يهودية تحت السيادة الإسرائيلية والعاصمة الأبدية لها. إن عدم وجود رؤية كاملة شاملة وتصور جماعي فلسطيني وخطاب عربي وإسلامي موحد لمستقبل القدس، أدى إلى استمرار احتلالها وانفراد الحكومات الإسرائيلية بممارسات أحادية لغرض وتثبيت وقائع جديدة دون مراعاة لقرارات الشرعية الدولية، مما جعل المدينة في وضع جيوسياسي يصعب فيه إعادة تقسيمها ثانية، زاد من وطأته تغاضي الدول الكبرى وصمتها على الإجراءات التعسفية في المدينة، وتكبل يد السلطة الفلسطينية بالمعاهدات التي وضعتها على نفسها، فتم تجاهل وتأجيل بحث موضوعها. وأمام هذه الأوضاع المأساوية بالمدينة المقدسة وبعد أن خاب أمل المقدسيين وأحبطت توقعاتهم وآمالهم وزاد الضغط عليهم، فقدت بوصلة العمل الوطني اتجاهها فانحرفت وأخذت تدور في حلقة مفرغة بلا هدف، بينما قامت إسرائيل "تحت غطاء عملية السلام" بإدخال وضع المدينة وبحث مآلها في نفق معتم طويل له بداية وليس له نهاية، تاهت فيه السبل والمواقف، واستغلت فيها مصطلحات ومفاهيم الوسطية والاعتدال وأساليب الدبلوماسية التكتيكية، وانتهاج المرونة التفاوضية وسيلة وحيدة لأية تسوية. لذا لم ولن يبقى للقدس غير أبنائها ومحبيها والغيورين عليها للمحافظة على مدينتهم ومقدساتها والمطالبة بحقوقهم وتقرير مصيرهم. وهذا يتطلب منهم العمل على إعادة ترتيب أولوياتهم وتحديد هدفهم، وتوحيد كلمتهم ورص صفوفهم، وتكاتفهم وترابطهم الجماعي لدعم ومساندة صمودهم وبقائهم، ومؤازرة رموزهم وعناوينهم ومؤسساتهم وإسماع صوتهم المغيب إلى كل مكان ومحفل لكشف الادعاءات والمخططات الإسرائيلية، وتحريك الضمائر والذاكرة والوجدان والعقل العربي والإسلامي، وإحياء ضمير القيم الأخلاقية وذاكرة الشعوب الحية وتطبيق قرارات الشرعية الدولية. إذ لا يسَّوغ استمرار الاحتلال والضم عدم المطالبة باسترجاع وإعادة الحقوق الضائعة، وأخيراً فإن دوام الحال من المحال، وكم سقطت القدس في تاريخها المديد ونهضت من جديد، وكم أصابتها العلل وأوهنتها الآلام فاستردت عافيتها. ولا شك أنها ستفعلها من جديد، إن لم يكن اليوم فغداً، وإن غداً لناظره قريب. اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
|