الحبس المنزلي: عندما يحول الاحتلال منزلك إلى مُعتَقَل
اعتمدت سلطات الاحتلال أشكال عدة من تقييد الحرية والحركة بحق المقدسيين، باستخدام الاعتقال التعسفي والأحكام العالية، ووضع تهم مختلفة ضمن إطار التحريض حتى في حال الكتابة على منصات التواصل الاجتماعي. آخر أشكال تقييد الحركة والاعتقال التي تعمل سلطات الاحتلال على فرضها هي الحبس المنزلي الذي يعد أحد أشكال الاعتقال وتقييد حركة المقدسيين خاصة الأطفال منهم، بأن يمكث الطفل داخل بيته أو إبعاده إلى بيت آخر للعائلة وكتابة تعهد من قبل أفراد الأسرة بمراقبته ومنعه من الخروج، ما يحول الآباء والأمهات إلى سجانين ومراقبين على أبنائهم، ويعيق حركة الأبناء حتى لقضاء احتياجاتهم الأساسية مثل الدراسة أو العلاج بسبب قرار المحكمة وفرض غرامات باهظة على كل من يخالف الأمر.
"الفتى علي قنيبي على شباك منزله الذي يخضع فيه للحبس المنزلي"
ويمكن تقسيم الحبس المنزلي إلى نوعين؛ الأول إلزام المحكوم البقاء في بيته وعدم الخروج منه بشكل مطلق خلال فترة محددة، والثاني بأن يخضع الطفل/ة أو الرجل أو المرأة لقرار المحكمة بقضائهم فترة الحكم في بيت أحد الأقارب البعيدين عن بيت العائلة ومنطقة سكنهم، وهو ما يشتت العائلة ويزيد حلة القلق والتوتر بين الطفل وأهله، ويترك تبعات نفسية واجتماعية لدى الشخص وأسرته.
وتركز استهداف سلطات الاحتلال على الأطفال المقدسيين دون سن 18 عاماً، وخاصة من هم دون الـ 14 عاماً، كون القانون الإسرائيلي لا يجيز تنفيذ الحبس الفعلي بحق الأطفال دون الـ 14 عاماً، فيتم فرض الحبس المنزلي عليهم خلال إجراءات المحاكمة التي قد تستغرق وقتاً طولياً، حتى بلوغهم سن الـ 14 عاماً الذي يمنح القانون سلطات الاحتلال فرض الحبس الفعلي بحقهم، دون احتساب مدة السجن البيتي حتى وإن استمرت لسنوات، أو لعدة مرات. رغم تسجيل حالات الحبس المنزلي بدءاً من عام 2014، إلا أن هذه الظاهرة أخدت تشهد تصاعداً بعد موجة الاحتجاجات عقب خطف الطفل محمد أبو خضير وتعذيبه وقتله في تموز 2014، والمشاركة الواسعة من جانب الأطفال الفلسطينيين آنذاك، لتتصاعد مرة أخرى مع اندلاع هبة القدس في تشرين الأول 2015، وحتى يومنا هذا. ولا تتوقف حالات الحبس المنزلي تجاه الأطفال فقط، بل تصل الرجال والنساء وكافة فئات المقدسيين، ومنهم الصحفية لمى غوشة (الصورة أدناه مع طفلتها كرمل) التي أُفرج عنها منتصف أيلول بشروط صارمة منها الحبس المنزلي حتى تاريخ كتابة هذه المادة بعد اعتقال دام 10 أيام قضتها داخل زنزانة انفرادية.
"الصحفية لمى غوشة تحتضن طفلتها كرمل بعد تحويلها من السجن الفعلي إلى المنزلي".
الأثر النفسي للحبس المنزلي: استذكر أستاذ علم النفس الاجتماعي د. برنارد سابيلا جائحة كورونا عند سؤاله عن الحبس المنزلي للأطفال، ففي بداية الجائحة أضطر الجميع صغاراً وكباراً للبقاء في المنزل على الأقل لشهر، ما ترك أثراً وتغيراً على شكل العلاقات داخل العائلة خاصة مع قيام الأهل بدورهم الفطري كأوصياء على الأطفال والأبناء والبنات في كل أعمارهم ليأخذوا وضع المراقب بالفطرة، فكيف عندما يصبح دورهم أعلى من الرقابة الفطرية بسبب أوامر "لا تتحرك، لا تذهب" لأنهم يخافون على الطفل من الحبس أو السجن أو التحقيق. يشير د. سابيلا إلى تخلخل العلاقة بين الطفل والأهل خاصة مع حرمان الأول من كل النشاطات المعهودة لجيله مع أصدقائه وزملائه في المدرسة أو الرحلات، ما يجعل الوضع صعباً جداً، ويترك أثراً على الطفل الذي ينكمش على ذاته وبعضهم يتجهون إلى عادات سيئة مثل التدخين جراء الضغط النفسي والكآبة المصاحبة للضغط، ما يفقده شعوره بالحماية من قبل الأسرة، ويسلخ الطفل عن بيئته الطبيعية الاجتماعية والنفسية. ويقول د. سابيلا أن التفاعل ضمن العائلة يصبح أيضاً مشحونا، خاصة إن كانت هناك مشاكل اجتماعية أو مرضية في العائلة، التي ستحاول إعطاء حلول للمشاكل الموجودة ويؤثر على بنية العائلة، وتشير دراسات مختلفة من أنحاء العالم إلى أن الأطفال الذين يوضعون في الحبس المنزلي أوفي المؤسسات يكونون عرضة لارتكاب جنح واستعمال العنف فيما بعد، ما يجعل من الضرورة أن يكون الحبس المنزلي محدوداً بمدة أسبوعين على أعلى تقدير، ويتزامن مع إعطاء العائلة والأطفال فرصة اللجوء إلى الاستشارة القانونية والاجتماعية والنفسية بالضرورة، خاصة أن التأثيرات النفسية تبقى لمدة طويلة.
"الفتى صهيب الأعور خلال محاكمته"
وتترك تجربة الحبس المنزلي شعوراً بفقدان الأمن الاجتماعي والاستقرار النفسي بسبب بقاء الطفل في منطقة محصورة لأيام وأشهر طويلة دون السماح له بالخروج من المنزل أو التعرض لضوء الشمس في بعض الأحيان، وتشير الإحصائيات حسب ورقة حقائق أعدتها "مفتاح" حول الحبس المنزلي، أن 85% من أطفال القدس المحتلة عانوا من اضطرابات نفسية إثر تعرضهم للاعتقال أو الاحتجاز أو الحبس المنزلي، إضافة إلى العصبية والتبول اللاإرادي، وحسب أخصائي علم النفس الإكلينيكي د. مراد عمرو فإن بعض الأطفال يرفضون العودة إلى المدارس بعد الحبس المنزلي ما يعد أحد أشكال التمرد نتيجة عدم القدرة على الشعور بالأمان ما ينسجم مع الشعور بالقلق ومشاعر العجز وضعف قدرتهم على الحفاظ على التنظيم الذاتي وإتقان الذات. وطالب سابيلا "بإيقاف الحبس المنزلي على الأطفال لأنه يتعارض مع ميثاق حماية الطفل والذي وقعته إسرائيل في العام 1991، وهذا التعارض يعني أنه يجب أن يكون هناك موقفاً بخصوص هذا الأمر، وإيصال رسالة مفادها أن ما يجري من حبس منزلي متواصل لأكثر من أسبوعين هو اعتراض صارخ على حقوق الطفل، وضد ميثاق حماية الطفل الذي وقعته إسرائيل".
علي قنيبي، على النافذة بانتظار الحياة يقضي الفتى علي قنيبي (14 عاماً) وقته أمام نافذة تطل على ساحة المنزل التي يمنع من الخروج إليها بسبب شروط الإبعاد المفروضة عليه في اعتقاله الثاني في آذار 2022، وبعد خمسة أيام فقط من انتهاء مدة الحبس المنزلي الأولى. فرضت سلطات الاحتلال على علي شروط إبعاد في اعتقاله الثاني منها منع الاقتراب أقل من 30 متراً من المستوطن الذي احتل منزلاً يبعد 3 متر من منزل عائلة القنيبي ما يضطره عند الخروج -إذا تخلص من الحبس المنزلي- سلوك طريق بعيد كي لا يمر من أمام المنزل الذي استولى عليه المستوطن يحاول علي دائماً التواصل مع أصدقائه الذين لم يتوقفوا عن لقائه والحديث قرب النافذة التي تطل على العالم خلال حبسه المنزلي...
لم تكن تجربة الحبس المنزلي الأولى على علي أقل وطأة نفسياً من الثانية، ولكن ما يترك أثراً أيضاً اقتياده معصوب العينين ومكمم الفم للتحقيق عند اعتقاله من البلدة القديمة في القدس المحتلة، وتخللت عملية الاعتقال الضرب المبرح على الرأس والرقبة والبطن والوجه ولم يزود بالماء والطعام طيلة فترة التحقيق، حتى قررت المحكمة تحويله للحبس المنزلي لمدة خمسة أيام.
والدا علي قنيبي: يقول الأب راتب قنيني الذي عاني من إعاقة حركية: "منذ حبسه لم يعد بمقدور علي المشاركة في أي مناسبة اجتماعية تخص العائلة، ويضطر فرد او أفراد العائلة البقاء معه كي لا يخرق أمر الحبس، فيغرم بكفالة من كفلوه والبالغة ستون ألف شيكل أي ما يقرب من 12 ألف دولار". أما الأم إيناس القنيبي فتقول "علي وكل فرد فينا بات حارساً وسجاناً في سجن اسمه البيت.. لقد تحول البيت إلى سجن حقيقي نحن سجانوه. هل تتخيل صعوبة أن تكون سجاناُ ومراقباُ على اطفالك تنفذ أوامر الاحتلال قسراً وإكراها؟"
تضيف القنيبي الأم "من حق علي أن يمارس حياته الطبيعية.. من حقه أن يذهب إلى المدرسة.. وأن يلعب مع أصدقائه .. وأن نصحبه معنا في مناسبات العائلة الاجتماعية.. كل ذلك الاحتلال حرم ابننا منها.. واليوم لا زال علي في الحبس.. ولا زال في كل حدث يقع في الحي يعتقل ويتعرض منزلنا للمداهمة سواء من قبل الجنود أو من قبل المستوطن المتطرف الذي حول حياتنا إلى جحيم.". أما علي الذي ينتظر قرار المحكمة التي ستقعد مطلع العام القادم 2023، فسيكون أمام خيارات تحكمها مزاجية المحكمة، فإما الإفراج، أو تجديد الحبس، أو إصدار حكم فعلي بالسجن، وللمفارقة أفاد علي أنه في حال تجديد الحكم بحقه، فإنه يفضل السجن الفعلي المحدد زمنياً بدلاً من الحبس المنزلي المفتوح.
معطيات وأرقام أفادت لجنة أهالي أسرى القدس، أن سلطات الاحتلال أصدرت نحو 2200 قرار بالحبس المنزلي منذ كانون الثاني 2018 وحتى آذار 2022، 114 طفلاً منهم كانت أعمارهم أقل من 12 عاماً. وتراجعت قرارات الحبس المنزلي المفتوح عددياً خلال العامين 2021 و2022، بعد موجة جديدة من القوانين الإسرائيلية المجحفة التي تجيز اعتقال الأطفال القُصّر ومن هم دون 14 عاماً، وتغليظ العقوبة بحق الأطفال والمتهمين برشق الحجارة منهم، مما منح شرطة الاحتلال والمحاكم صلاحيات أوسع باستمرار اعتقال الأطفال وتمديد فترة وجودهم في السجن الفعلي.
أدناه توزيع حالات الحبس المنزلي للأطفال حسب لجنة أهالي أسرى القدس:
الحبس المنزلي والقانون الدولي يقول المحامي مدحت ديبة، أن القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، يوفر مساحة كبيرة لضمان حرية الأطفال وتمتعهم بالأمن والحماية والكرامة، واتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 في مادتها (37-أ) تكفل ألا يتعرض أي طفل للتعذيب أو لغيره من العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، كما تنص الفقرة (ب) على أنه لا يجوز حرمان أي طفل من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية، كما تؤكد المادة نفسها أنه في حالة الاعتقال (كحالة استثنائية)، فإنه يجب أن يجري اعتقال الطفل أو احتجازه أو سجنه وفقاً للقانون، ولا يجوز ممارسته إلا كتدبير أخير، ولأقصر فترة زمنية مناسبة، فضلاً عن الحق في الطعن في شرعية حرمانه من الحرية أمام محكمة مستقلة ومحايدة. ودعت اتفاقيات جنيف الأربع لأن يكون الأطفال خارج دائرة الاستهداف في حالات النزاعات المسلحة وتجنيبهم آثار الحروب، لكن في حالة الحبس المنزلي فالوضع عكس ذلك تماماً، فإسرائيل تجعل الاعتقال الخيار الأول بالتعامل مع الطفل، وتتعامل معهم وكأنهم بالغون، وتعرضهم للضرب والإهانة منذ لحظة الاعتقال، ويتم التحقيق معهم واستجوابهم في ظل غياب وجود المحامي أو الوالدين بشكل مخالف للقانون الدولي". ما إن تنتهي عملية التحقيق وتبدأ إجراءات المحاكمة، يحتجز الطفل في منزله كخيار أول ولفترة زمنية طويلة قد تتجاوز السنة، وتتم خلالها إجراءات المحاكمة الطويلة، وبمجرد الحكم عليه بالسجن الفعلي (إن ثبتت التهمة) لا يتم احتساب أي يوم له من مدة الحبس المنزلي ضمن فترة السجن الفعلي الذي يمتد ما بين ثلاثة وستة أشهر كحد أقصى، حيث يبقى الطفل حبيس منزله لفترة قد تتجاوز السنة.
|